مفاتيح الجنان بذكر صفات عبـــاد الرحـمن : الدرس الخامس: قيام الليل، للشيخ عمر مصطفي
مفاتيح الجنان بذكر صفات عبـــاد الرحـمن : للشيخ عمر مصطفي 5 رمضان 1444 هـ – 27 مارس 2023م
الدرس الخامس
قيام الليل
العناصر
أولاً : من لم يكن له سر فهو مصر
ثانياً : دقائق الليل غالية فلا تضيعوها بالغفلة
ثالثاً : جنة المؤمن في محرابه
لتحميل الدرس بصيغة word
لتحميل الدرس بصيغة word
الموضوع
الحَمْدُ لله الدَّاعي إلى بابه، الهادي من شاء لصوابِهِ، أنعم بإنزالِ كتابِه، فيه مُحكم ومتشابه، فأما الَّذَينَ في قُلُوبهم زَيْغٌ فيتبعونَ ما تَشَابَه منه، وأمَّا الراسخون في العلم فيقولون آمنا به، أحمده على الهدى وتَيسيرِ أسبابِه، وأشهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحدَه لا شَريكَ له شهادةً أرْجو بها النجاةَ مِنْ عقابِه، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أكمَلُ النَّاس عَملاً في ذهابه وإيابه ، اللهم صلي عليه وعلي آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين . أما بعد :
أولاً : من لم يكن له سر فهو مصر
عباد الله ما زال حديثنا موصولاً في رحاب صفات عباد الرحمن ، تحدثنا عن حالهم في أنفسهم فهم متواضعون لا متكبرون ، وحالهم مع الناس يتعاملون بالحلم ويحملون الأذي ، ومع الصفة الثالثة ، ألا وهي حالهم مع ربهم وخالقهم ، قيامهم بالليل بين يدي الملك سبحانه و تعالي .
قال الله تعالي : (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)(الفرقان).
عن الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، قال: «مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَبِيٌّ مِنْ عَمِلٍ صَالِحٍ، فَلْيَفْعَلْ» (السنن الكبرى للنسائي ). وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَتَمَاشَوْنَ أَخَذَهُمُ المَطَرُ، فَمَالُوا إِلَى غَارٍ فِي الجَبَلِ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا لِلَّهِ صَالِحَةً، فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا لَعَلَّهُ يَفْرُجُهَا. فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ، كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ فَحَلَبْتُ بَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ وَلَدِي، وَإِنَّهُ نَاءَ بِيَ الشَّجَرُ، فَمَا أَتَيْتُ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا، فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ، فَجِئْتُ بِالحِلاَبِ فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا، أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَبْدَأَ بِالصِّبْيَةِ قَبْلَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ. فَفَرَجَ اللَّهُ لَهُمْ فُرْجَةً حَتَّى يَرَوْنَ مِنْهَا السَّمَاءَ. وَقَالَ الثَّانِي: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ أُحِبُّهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، فَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا، فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَسَعَيْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ فَلَقِيتُهَا بِهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ، وَلاَ تَفْتَحِ الخَاتَمَ، فَقُمْتُ عَنْهَا، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا. فَفَرَجَ لَهُمْ فُرْجَةً. وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَقَّهُ فَتَرَكَهُ وَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا، فَجَاءَنِي فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَظْلِمْنِي وَأَعْطِنِي حَقِّي، فَقُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ البَقَرِ وَرَاعِيهَا، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَهْزَأْ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لاَ أَهْزَأُ بِكَ، فَخُذْ ذَلِكَ البَقَرَ وَرَاعِيَهَا، فَأَخَذَهُ فَانْطَلَقَ بِهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ مَا بَقِيَ. فَفَرَجَ اللَّهُ عَنْهُمْ “(صحيح البخاري). فالأعمال الصالحة التي لا يراها الناس أرجي للقبول وأقرب للإخلاص وأبعد من الرياء ، ومنها قيام الليل والناس نيام ، وقد خلا كل حبيب بحبيه ، وهذا خلا بربه يناجيه .
فقيام الليل شرف المؤمن، حث الله عباده عليه ليتقربوا به إليه سبحانه، ويستعينوا به على ما يواجههم في سائر حياتهم، وقد عظم الله شأن أهله، وضاعف أجورهم، ورفع منزلتهم، وحث على الاقتداء بهم، ويتأكد القيام ويعظم أجره في الأوقات المباركة، كشهر رمضان، والثلث الأخير من الليل، فينبغي للمؤمن اغتنام هذه الأوقات والتزود منها.
ووصف علي رضي الله عنه الصحابة الكرام فقال: رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أر اليوم شيئاً يشبههم، كانوا يصبحون شعثاً صفراً غبراً بين أعينهم أمثال ركب المعزى، قد باتوا سجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا تمادوا كما يميد الشجر يوم الريح وهملت أعينهم بالدموع، فوالله لكأني بالقوم باتوا غافلين.
وقال الحسن: أدركت أقواماً وخالطت طوائف ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل، ولا يأسفون على شيء منها أدبر، ولهي كانت في أعينهم أهون من التراب، ولقد كان الواحد منهم يعيش خمسين سنة أو ستين سنة لم يطو له ثوب ولم يوضع بينه وبين الأرض شيء، ولا أمر من في بيته بصنعة طعام قط، فإذا كان الليل فقيام على أقدامهم يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فو الله ما سلموا من الذنوب، ولولا مغفرة الله ما نجوا، فرحمة الله عليهم ورضوانه.
ثانياً : دقائق الليل غالية فلا تضيعوها بالغفلة
قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ، وَمَنْهَاةٌ عَنْ الإِثْمِ، وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنِ الجَسَدِ».(سنن الترمذي).
وقال صلي الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: (أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل).
ووصف الله عز وجل المؤمن فقال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} (الزمر:9).
وقال عز وجل: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة:17).
فعندما هدأت الأصوات وسكنت الحركات قاموا لربهم عز وجل يتملقونه ويدعونه رغباً ورهباً، فكما أخفوا العمل واستتروا بظلمة الليل عند ذلك أخفى الله عز وجل لهم الثواب، {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
وقال عز وجل في وصف المحسنين: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 – 18].
{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17]، أي: ينامون، قال بعض السلف: ما مرت عليهم ليلة إلا وأخذوا منها شيئاً.
وقال بعضهم: ما ناموا ليلة حتى الصباح، بل لهم حظ من قيام الليل.
فهذا وصف المتقين ووصف المحسنين في كتاب الله عز وجل.
إذا ما الليل أقبل كابدوه فيسفر عنهم وهم ركوع أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع منع القرآن بوعده ووعيده مقل العيون بليلها لا تهجع فهموا عن الملك الجليل كلامه فهماً تذل له الرقاب وتخضع .
ثالثاً : جنة المؤمن في محرابه
إذا كانت المسلم مخلصاً في عبوديته لله عز وجل سعد في الدنيا والآخرة ، وكلما نقص إخلاصه في العبودية نقصت سعادته بقدر ذلك ، ولذلك يخبرنا الصالحون كيف وجدوا السعادة التي ما ذقنا شيئاً منها لضعف إيماننا ويقيننا وقلة توحيدنا .
فقال بعضهم: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من نعمة لجالدونا عليها بالسيوف.
وقال بعضهم: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا.
وقال بعضهم: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة.
وقال بعضهم: إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة كالذي نحن فيه والله إنهم لفي عيش طيب.
وقال بعضهم: والله! إنه لتمر بي أوقات يرقص فيها القلب طرباً.
فلله در القائل :
يا رجال الليل جدوا رب صوت لا يرد
ما يقوم الليل إلا من له عزم وجد
اللَّهُمَّ ارزقْنا تِلاوةَ كتابِكَ حقَّ التِّلاوة، واجْعَلنا مِمَّنْ نال به الفلاحَ والسَّعادة. اللَّهُمَّ ارزُقْنا إقَامَةَ لَفْظهِ ومَعْنَاه، وحِفْظَ حدودِه ورِعايَة حُرمتِهِ ، اللَّهُمَّ ارزقْنا تلاوته على الوجهِ الَّذِي يرْضيك عنَّا. واهدِنا به سُبُلَ السلام. وأخْرِجنَا بِه من الظُّلُماتِ إلى النُّور. واجعلْه حُجَّةً لَنَا لا علينا يا ربَّ العالَمِين. اللَّهُمَّ ارْفَعْ لَنَا به الدَّرجات. وأنْقِذْنَا به من الدَّرَكات. وكفِّرْ عنَّا به السيئات. واغْفِر لَنَا وَلِوَالِديِنَا ولجميعِ المسلمينَ برحمتكَ يا أرْحَمَ الراحمين. وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه راجي عفو ربه عمر مصطفي